فصل: التفسير المأثور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



أَمَّا قَوْلُ مَنْ قَالَ: الْمُرَادُ بِالْمُنَافِقِينَ هُنَا الْعُرَنِيُّونَ، فَفِيهِ أَنَّ قَتْلَ الْعُرَنِيِّينَ كَانَ لِمُخَادَعَتِهِمْ وَغَدْرِهِمْ وَقَتْلِهِمْ رَاعِيَ الْإِبِلِ الَّتِي أَعْطَاهُمُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَتَمْثِيلُهُمْ بِهِ، عَلَى أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ وَاهٍ جِدًّا لِأَنَّ الْعُرَنِيِّينَ لَا يَأْتِي فِيهِمُ التَّفْصِيلُ الَّذِي فِي الْآيَاتِ، وَلَكِنْ مَنْ هُمْ هَؤُلَاءِ؟
رَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ الْحَسَنِ أَنَّ سُرَاقَةَ بْنَ مَالِكٍ الْمُدْلَجِيَّ حَدَّثَهُمْ قَالَ: «لَمَّا ظَهَرَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ وَأُحُدٍ وَأَسْلَمَ مَنْ حَوْلَهُمْ قَالَ سُرَاقَةُ: بَلَغَنِي أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم يُرِيدُ أَنْ يَبْعَثَ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ إِلَى قَوْمِي مِنْ بَنِي مُدْلَجٍ فَأَتَيْتُهُ، فَقُلْتُ: أَنْشُدُكَ النِّعْمَةَ، فَقَالُوا: مَهْ، فَقَالَ: دَعُوهُ، مَا تُرِيدُ؟ قُلْتُ: بَلَغَنِي أَنَّكَ تُرِيدُ أَنْ تَبْعَثَ إِلَى قَوْمِي، وَأَنَا أُرِيدُ أَنْ تُوادِعَهُمُ فَإِنْ أَسْلَمَ قَوْمُكَ أَسْلَمُوا وَدَخَلُوا فِي الْإِسْلَامِ وَإِنْ لَمْ يُسَلِمُوا لَمْ تَخْشَ بِقُلُوبِ قَوْمِكَ عَلَيْهِمْ، فَأَخَذَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِيَدِ خَالِدٍ فَقَالَ:» اذْهَبْ مَعَهُ فَافْعَلْ مَا يُرِيدُ فَصَالَحَهُمْ خَالِدٌ عَلَى أَلَّا يُعِينُوا عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَإِنْ أَسْلَمَتْ قُرَيْشٌ أَسْلَمُوا مَعَهُمْ، وَمَنْ وَصَلَ إِلَيْهِمْ مِنَ النَّاسِ كَانَ لَهُمْ مِثْلَ عَهْدِهِمْ، فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى: {وَدُّوا} حَتَّى بَلَغَ: {إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ}، فَكَأَنَّ مَنْ وَصَلَ إِلَيْهِمْ كَانُوا مَعَهُمْ عَلَى عَهْدِهِمْ، انْتَهَى مِنْ لُبَابِ النُّقُولِ، وَعَزَا الْأَلُوسِيُّ هَذِهِ الرِّوَايَةَ إِلَى ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ عِكْرِمَةَ أَنَّهُ قَالَ: نَزَلَتْ فِي هِلَالِ بْنِ عُوَيْمِرٍ الْأَسْلَمِيِّ وَسُرَاقَةَ بْنِ مَالِكِ بْنِ جَعْشَمٍ وَخُزَيْمَةَ بْنِ عَامِرِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ، انْتَهَى مِنْ تَفْسِيرِهِ، وَعَزَا السُّيُوطِيُّ هَذِهِ الرِّوَايَةَ فِي اللُّبَابِ إِلَى ابْنِ أَبِي حَاتِمٍ فَقَطْ، ثُمَّ قَالَ: وَأَخْرَجَ أَيْضًا عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهَا أُنْزِلَتْ فِي هِلَالِ بْنِ عُوَيْمِرٍ الْأَسْلَمِيِّ وَكَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُسْلِمِينَ عَهْدٌ وَقَصَدَهُ نَاسٌ مِنْ قَوْمِهِ فَكَرِهَ أَنْ يُقَاتِلَ الْمُسْلِمِينَ وَكَرِهَ أَنْ يُقَاتِلَ قَوْمَهُ.
وَقَالَ الرَّازِيُّ تَبَعًا لِلْكَشَّافِ: إِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَادَعَ وَقْتَ خُرُوجِهِ إِلَى مَكَّةَ هِلَالَ بْنَ عُوَيْمِرٍ الْأَسْلَمِيَّ عَلَى أَلَّا يَعْصِيَهُ وَلَا يُعِينَ عَلَيْهِ، وَعَلَى أَنَّ كُلَّ مَنْ وَصَلَ إِلَى هِلَالٍ وَلَجَأَ إِلَيْهِ فَلَهُ مِنَ الْجِوَارِ مِثْلُ مَا لِهِلَالٍ.
وَهَذِهِ الرِّوَايَاتُ كُلُّهَا تَرُدُّ مَا ذَكَرَهُ السُّيُوطِيُّ فِي أَسْبَابِ نُزُولِ الْآيَةِ الْأُولَى صَحِيحَةُ السَّنَدِ وَضَعِيفَتُهُ، وَتُؤَيِّدُ مَا قَالَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فِي كَوْنِ الْمُنَافِقِينَ فِي هَذَا السِّيَاقِ هُمُ الْمُنَافِقِينَ فِي الْعَهْدِ وَالْوَلَاءِ.
سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ هَؤُلَاءِ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ لَمْ يَهْتَدُوا بِالْإِسْلَامِ، وَلَمْ يَتَصَدُّوا إِلَى مُجَالَدَةِ أَهْلِهِ بِحَدِّ الْحُسَامِ، فَكَانُوا مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْكَافِرِينَ، لَا يَهُمُّهُمْ إِلَّا سَلَامَةُ أَبْدَانِهِمْ، وَالْأَمْنُ عَلَى أَرْوَاحِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ، فَهُمْ يُظْهِرُونَ لِكُلٍّ مِنَ الْمُتَحَارِبَيْنِ أَنَّهُمْ مِنْهُمْ أَوْ مَعَهُمْ، رَوَى ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ مُجَاهِدٍ: أَنَّهُمْ نَاسٌ كَانُوا يَأْتُونَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَيُسْلِمُونَ رِيَاءً فَيَرْجِعُونَ إِلَى قُرَيْشٍ فَيَرْتَكِسُونَ فِي الْأَوْثَانِ يَبْتَغُونَ بِذَلِكَ أَنْ يَأْمَنُوا هَاهُنَا وَهَاهُنَا، فَأُمِرَ بِقِتَالِهِمْ إِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوا وَيَصْلُحُوا اهـ.
وَرَوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْ فِتْنَةٍ أُرْكِسُوا فِيهَا، وَذَلِكَ أَنَّ الرَّجُلَ مِنْهُمْ كَانَ يُوجَدُ قَدْ تَكَلَّمَ بِالْإِسْلَامِ، فَيُقَرَّبُ إِلَى الْعُودِ وَالْحَجَرِ وَإِلَى الْعَقْرَبِ وَالْخُنْفُسَاءِ فَيَقُولُ الْمُشْرِكُونَ لَهُ: «قُلْ هَذَا رَبِّي» لِلْخُنْفُسَاءِ وَالْعَقْرَبِ، وَرُوِيَ عَنْ قَتَادَةَ أَنَّهُمْ حَيٌّ كَانُوا بِتِهَامَةَ، قَالُوا: «يَا نَبِيَّ اللهِ، لَا نُقَاتِلُكَ وَلَا نُقَاتِلُ قَوْمَنَا»، وَأَرَادُوا أَنْ يَأْمَنُوا نَبِيَّ اللهِ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ فَأَبَى اللهُ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ فَقَالَ: كُلَّمَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا، يَقُولُ: كَمَا عَرَضَ لَهُمْ بَلَاءٌ هَلَكُوا فِيهِ، وَرُوِيَ عَنِ السُّدِّيِّ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي نُعَيْمِ بْنِ مَسْعُودٍ الْأَشْجَعِيِّ وَكَانَ يَأْمَنُ فِي الْمُسْلِمِينَ وَالْمُشْرِكِينَ، يَنْقُلُ الْحَدِيثَ بَيْنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَالْمُشْرِكِينَ، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ كُلُّ مَنْ ذُكِرَ مِنْ هَذَا الْفَرِيقِ، وَأَنْ يَكُونَ مِنْهُمْ غَيْرَ مَنْ ذُكِرَ.
وَنَزِيدُ فِي بَيَانِ مَعْنَى قَوْلِهِ: {كُلَّمَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا}، أَنَّهُمْ كَانُوا يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوا جَانِبَ الْمُسْلِمِينَ إِمَّا بِإِظْهَارِ الْإِسْلَامِ، وَإِمَّا بِالْعَهْدِ عَلَى السِّلْمِ وَتَرْكِ الْقِتَالِ وَمُسَاعَدَةِ الْكُفَّارِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، ثُمَّ يَفْتِنُهُمُ الْمُشْرِكُونَ أَيْ: يَحْمِلُونَهُمْ عَلَى الشِّرْكِ أَوْ عَلَى مُسَاعَدَتِهِمْ عَلَى قِتَالِ الْمُسْلِمِينَ وَهُوَ الْإِرْكَاسُ فَيَرْتَكِسُونَ أَيْ: فَيَتَحَوَّلُونَ شَرَّ التَّحَوُّلِ مَعَهُمْ، ثُمَّ يَعُودُونَ إِلَى ذَلِكَ النِّفَاقِ وَالِارْتِكَاسِ مَرَّةً بَعْدَ الْمَرَّةِ، أَيْ فَهُمْ قَدْ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَخْتَلِفَ الْمُؤْمِنُونَ فِي شَأْنِهِمْ، وَقَدْ بَيَّنَ اللهُ حُكْمَهُمْ بِقَوْلِهِ: {فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ}، أَيْ فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ بِتَرْكِكُمْ وَشَأْنِكُمْ وَالْتِزَامِهِمُ الْحِيَادَ، وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ، أَيْ زِمَامَ الْمُسَالِمَةِ بِالصِّفَةِ الَّتِي تَثِقُونَ بِهَا حَتَّى كَأَنَّ زِمَامَهَا فِي أَيْدِيكُمْ، وَفَسَّرَهُ بَعْضُهُمْ بِالصُّلْحِ، وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ عَنِ الْقِتَالِ مَعَ الْمُشْرِكِينَ أَوْ عَنِ الدَّسَائِسِ إِنْ لَمْ يَفْعَلُوا ذَلِكَ وَيُؤْمَنُ بِهِ غَدْرُهُمْ وَشَرُّهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ، إِذْ ثَبَتَ بِالِاخْتِبَارِ أَنَّهُ لَا عِلَاجَ لَهُمْ غَيْرَ ذَلِكَ، فَقَدْ قَامَتِ الْحُجَّةُ لَكُمْ عَلَى ذَلِكَ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَأُولَئِكُمْ جَعَلَنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُبِينًا}، أَيْ: جَعَلَنَا لَكُمْ حُجَّةً وَاضِحَةً وَبُرْهَانًا ظَاهِرًا عَلَى قِتَالِهِمْ، فَقَدْ رُوِيَ عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ أَنَّ السُّلْطَانَ فِي كِتَابِ اللهِ تَعَالَى هُوَ الْحُجَّةُ، وَهَذَا يُقَابِلُ قَوْلَهُ تَعَالَى فِيمَنِ اعْتَزَلُوا وَأَلْقَوْا السَّلَمَ: {فَمَا جَعَلَ اللهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا}، وَكُلٌّ مِنَ الْعِبَارَتَيْنِ تُؤَيَّدُ بِالْأُخْرَى فِي بَيَانِ كَوْنِ الْقِتَالِ لَمْ يُشْرَعْ فِي الْإِسْلَامِ إِلَّا لِضَرُورَةٍ، وَأَنَّ هَذِهِ الضَّرُورَةَ تُقَدَّرُ بِقَدْرِهَا فِي كُلِّ حَالٍ.
قَالَ الرَّازِيُّ: قَالَ الْأَكْثَرُونَ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ إِذَا اعْتَزَلُوا قِتَالَنَا وَطَلَبُوا الصُّلْحَ مِنَّا وَكَفُّوا أَيْدِيَهُمْ عَنْ قِتَالِنَا لَمْ يَجُزْ لَنَا قِتَالُهُمْ وَلَا قَتْلُهُمْ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {لَا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ} [60: 8]، وَقَوْلُهُ: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا} [2: 190]، فَخَصَّ الْأَمْرَ بِالْقِتَالِ بِمَنْ يُقَاتِلُنَا دُونَ مَنْ لَمْ يُقَاتِلْنَا اهـ.
وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يَعْنِي بِمُقَابِلِ الْأَكْثَرِينَ مَنْ يَقُولُ إِنَّ فِي الْآيَاتِ نَسْخًا، وَلَا يَظْهَرُ النَّسْخُ فِيهَا إِلَّا بِتَكَلُّفٍ، فَمَا وَجْهُ الْحِرْصِ عَلَى هَذَا التَّكَلُّفِ؟ وَيَأْتِي فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَا ذَكَرْنَاهُ عَقِبَ الَّتِي قَبْلَهَا فِي قَتْلِ الْمُرْتَدِّينَ وَغَيْرِهِمْ.
وَمِنْ مَبَاحِثِ اللَّفْظِ فِي الْآيَاتِ أَنَّ «الْفَاءَ» فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَتَكُونُونَ سَوَاءً} لِلْعَطْفِ لَا لِلْجَوَابِ، كَقَوْلِهِ: {وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ} [68: 9]، وَقَوْلُهُ: {أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ}، مَعْطُوفٌ عَلَى الَّذِينَ يَصِلُونَ وَالتَّقْدِيرُ أَوِ الَّذِينَ جَاءُوكُمْ قَدْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ، وَقُرِئَ فِي الشُّذُوذِ {حَصِرَةٌ صُدُورُهُمْ} وَعِنْدِي أَنَّهُ تَفْسِيرٌ لِلْجُمْلَةِ بِالْحَالِ لَا قِرَاءَةً.
وَقَدْ فَسَّرَ بَعْضُهُمْ {إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ} بِصِلَةِ النَّسَبِ وَرَدَّهُ الْمُحَقِّقُونَ قَائِلِينَ: إِنَّ كُفَّارَ قُرَيْشٍ الَّذِينَ يَتَّصِلُ نَسَبُهُمْ بِنَسَبِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَمْتَنِعْ قِتَالُهُمْ، بَلْ كَانَ أَشَدُّ الْقِتَالِ مِنْهُمْ وَعَلَيْهِمْ، فَكَيْفَ يَمْتَنِعُ قِتَالُ مَنِ اتَّصَلَ بِالْمُعَاهِدِينَ بِالنَّسَبِ؟ وَيُرِيدُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ الْقَوْلَ أَنْ يَفْتَحَ بَابًا أَغْلَقَهُ الْإِسْلَامُ، وَقَدْ سَرَى سُمُّهُ حَتَّى إِلَى بَعْضِ مَنْ رَدَّ هَذَا الْقَوْلَ فَجَعَلَهُ بُشْرَى لِمَنْ لَا بِشَارَةَ لَهُمْ فِيهِ. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

قال ابن عادل:
السِّين في {ستجدون} للاسْتِقْبَال على أصلها، قالوا: ولَيْسَت هنا للاسْتِقْبَال، بل للدَّلالة على الاسْتِمْرَار، وليس بِظَاهِرٍ.
وقرأ عبد الله: {ركسوا فيها} ثلاثيَّا مُخَفَّفًا، ونقل ابْنُ جنيٍّ عنه: {ركَّسوا} بالتَّشْديد. وقرأ ابن وثابِ والأعْمِشُ: {رِدوا} بِكَسْر الرَّاء؛ لأن الأصْل: {رددوا} فأدْغِم، وقلبت الكَسْرة على الرَّاء. اهـ. بتصرف يسير.

.التفسير المأثور:

قال السيوطي:
{سَتَجِدُونَ آَخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُبِينًا (91)}
أخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله: {ستجدون آخرين} الآية. قال: ناس من أهل مكة كانوا يأتون النبي صلى الله عليه وسلم، فيسلمون رياء، ثم يرجعون إلى قريش فيرتكسون في الأوثان، يبتغون بذلك أن يأمنوا هاهنا وههنا، فأمر بقتالهم إن لم يعتزلوا ويصالحوا.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم من طريق العوفي عن ابن عباس {ستجدون آخرين يريدون أن يأمنوكم ويأمنوا قومهم كلما ردوا إلى الفتنة أركسوا فيها} يقول: كلما أرادوا أن يخرجوا من فتنة أركسوا فيها، وذلك أن الرجل كان يوجد قد تكلم بالإسلام، فيتقرب إلى العود والحجر، وإلى العقرب والخنفساء، فيقول المشركون لذلك المتكلم بالإسلام: قل هذا ربي، للخنفساء والعقرب.
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله: {ستجدون آخرين...} الآية. قال: حي كانوا بتهامة قالوا: يا نبي الله لا نقاتلك ولا نقاتل قومنا، وأرادوا أن يأمنوا نبي الله ويأمنوا قومهم، فأبى الله ذلك عليهم فقال: {كلما ردوا إلى الفتنة أركسوا فيها} يقول: كلما عرض لهم بلاء هلكوا فيه.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن السدي قال: ثم ذكر نعيم بن مسعود الأشجعي، وكان يأمن في المسلمين والمشركين بنقل الحديث بين النبي صلى الله عليه وسلم والمشركين، فقال: {ستجدون آخرين يريدون أن يأمنوكم ويأمنوا قومهم كلما ردوا إلى الفتنة} يقول: إلى الشرك.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن أبي العالية في قوله: {كلما ردوا إلى الفتنة أركسوا فيها} قال: كلما ابتلوا بها عموا فيها. اهـ.

.التفسير الإشاري:

.قال النيسابوري:

التأويل: {خذوا حذركم} وهو ذكر الله {فانفروا ثبات} جاهدوا بالرياضات من عالم التفرقة وهو عالم الحيوانية {أو انفروا جميعًا} من عالم الجمعية وهو عالم الروحانية إلى عالم الوحدة {وإن منكم} أيها الصدّيقون {لمن ليبطئن} من المدعين المتكاسلين في السير، القانعين بالاسم، النازلين على الرسم مصيبة شدة ومجاهدة فضل من الله مواهب غيبية وعلوم لدنية ومرتبة عند الخواص وقبول عند العوام يشترون الحياة الدنيا يشترون حظوظ النفس بحقوق الرب فيقتل نفسه بسيف الصدق أو يغلب عليها بالظفر فتسلم على مدة.
{والمستضعفين من الرجال} أي الأرواح الضعيفة استضعفتها النفوس باستيلائها عليها {والنساء} أي القلوب فإنّ القلب للروح كالزوجة للزوج لتصرف الروح والقلب كتصرف الزوج في الزوجة. {والولدان} الصفات الحميدة المتولّدة بين الروح والقلب {من هذه القرية} قرية البدن {الظالم أهلها} وهي النفس الأمارة بالسوء {نصيرًا} شيخًا مربيًا {ألم تر إلى الذين قيل لهم} من أهل السلامة {كفوا أيديكم} من الاعتصام بحبل أهل الملامة {وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة} فإنكم لستم أهل الغرام فاقنعوا بدار السلام والسلام لأرباب الغرام من أهل الملام {إذا فريق منهم يخشون الناس} ويخافون لومة الناس ولو كان من شرطهم أن لا يخافوا لومة لائم ولا يناموا نومة نائم فنفروا عن فريقهم كالبهائم، وضلوا عن طريقهم كالهائم. {لولا أخرتنا إلى أجل قريب} فنموت بالآجال فإن لنا كل لحظة موتة في ترك حظوة. في أيها البطلة في زي الطلبة الذين غلب عليكم حب الدنيا فأقعدكم عن طلب المولى {أينما تكونوا يدرككم الموت} اضطرارًا إن لم تموتوا قبل أن تموتوا اختيارًا {ولو كنتم في بروج مشيدة} أجسام قوية مجسمة {وإن تصبهم} يعني أهل البطالة {حسنة} من فتوحات غيبية {يقولوا هذه من عند الله} لا يرون للشيخ فيما عليهم حقًا {وإن تصبهم سيّئة} من الرياضات والمجاهدات {يقولوا} للشيخ {هذه من عندك} أي بسببك وسعيك {قل كل من عند الله} القبض والبسط والفرح والترح {ما أصابك} من فتح وموهبة {فمن الله} فضلًا وكرمًا {وما أصابك من سيّئة} بلاء وعناء {فمن} شؤم صفات {نفسك} الأمارة. والتحقيق فيه أن للأعمال أربع مراتب: التقدير والخلق وهاتان من الله تعالى، والكسب والفعل وهاتان من العبد، وإن كان العبد وكسبه وفعله كلها مخلوقة خلقها الله تعالى فافهم. {وأرسلناك للناس رسولًا} يهتدون بهداك ويتبعون خطاك، ويقولون إذا كانوا حاضرين في صحبتك، وتنعكس أشعة أنوار النبوة عليهم، ويصغون بآذانهم الواعية إلى الحكم والمواعظ الوافية السمع والطاعة. {فإذا برزوا من عندك} وهبت عليهم رياح الهوى عاد الطبع المشؤوم إلى أصله وهكذا حال أكثر مريدي هذا الزمان من مشايخهم والله يكتب بغير عليهم {ما يبيتون} لأنّ الله لا يغيّر ما بقوم حتى يغيّروا ما بأنفسهم {فأعرض عنهم} واصبر معهم {وتوكّل على الله} فلعل الله يصلح بالهم. اهـ.